الحرية لعلي أنوزلا

السبت، 21 يوليو 2012

خلف الأسوار - ج14 والأخير



لمن فاتته الأجزاء السابقة، إليكم روابطها:


*****************

طمأن الطبيب سعاد على صحة المولود، وقال لها:
"لا تخافي، فعادة ما يكون لون الأطفال حديثي الولادة يميل إلى الزرقة، وهذا ناتج عن ابتلاعهم للقليل من السائل السلوي، سنحاول إخراجه من جوفه بسهولة، ونقوم ببعض التحاليل حتى نطمئن على صحته أكثر".
نزل كلام الطبيب على قلب سعاد بردا وسلاما، وفي تلك اللحظة، دخل لؤي إلى غرفة العمليات، ورأى مولوده تحمله ممرضة لإجراء فحوصات عليه، ثم وجّه وجهه نحو زوجته وقال لها:
"الحمد لله على سلامتك حبيبتي"
"الحمد لله، عزيزي، لقد رزقنا بابن ذكر"
"حقا.. الحمد لله"
"نعم، الحمد لله"
"عزيزتي، لقد فكرت مليا قبل ولادتك، وقلت في نفسي إن كان المولود ذكرا، سنسميه "يوسف" تيمنا باسم والدي رحمه الله، وإن كانت بنتا سنسميها "رجاء"، فما رأيك؟"
أجابته سعاد وهي تمسك بيده اليمنى:
"عزيزي، لاشك أن الأسماء التي اخترتها لمولودنا جميلة، لكن كان لدي اسم ادخرته منذ زمن إن رزقنا الله بابن ذكر".
"ما هو عزيزتي.. أخبريني به".
"كريم، اسم لطالما حلمت به، وأسأل الله تعالى أن يكون ابننا اسم على مسمى، ويحمل صفاتك النبيلة".
"كريم.. كريم.. اسم جميل كذلك، إذن سنسميه كريم"، فضحك وضحكت معه سعاد.
وعلى بعد آلاف الكيلومترات، وفي سجن روما، كان كريم ينهل من الكتب القانونية عساه يعتر على ثغرات تكون في صالحه، وبينما هو كذلك، إذ عاوده الحنين إلى بلاده، وإلى والديه وحبيبته التي تركها دون أن يعرف أخبارها. بينما هو في تفكيره، إذ ناداه سجانه وأخبره بأن له زيارة . ذهب كريم إلى المكان المخصص للزيارات، فوجد مارية تنتظره، كالعادة، محملة ببعض المأكولات والألبسة، شكرها على صنيعها وعلى لطفها وقال:
"مارية، أشكرك جدا على كرمك ولطفك معي، ولو تفضلت لي رجاء جديد، فهل تلبينه لي؟".
"تفضل كريم، طلباتك أوامر، فما أنا هنا إلا من أجل السهر على خدمتك وراحتك".
"بارك الله فيك، عزيزتي"
احمرت وجنتا مارية خجلا عند تلفظ كريم بكلمة "عزيزتي" لأول مرة، فاخفت ابتسامة كانت ستظهر على محياها، ثم أردفت:
"ما هو طلبك ؟"
"أريدك أن تذهبي إلى مركز البريد، وتأتيني بالرسائل التي وردت إلي من بلادي، ستجدينها في صندوقي الخاص هناك"
"لكن، كريم، أنى لي بمفتاح صندوقك البريدي؟"
"اذهبي إلى أحمد، جاري، سيمدك بالمفتاح، لقد طلبت منه ذلك من قبل"
"حسنا، سأذهب فورا"
"شكرا لك.. شكرا جزيلا"
تصافحا، ثم تركته مارية يعود إلى زنزانته، وذهبت هي إلى أحمد كي تأخذ مفتاح الصندوق البريدي.
كانت الساعة تقارب الخامسة مساء عندما دلفت مارية إلى مركز البريد، وتوجهت مباشرة نحو المكان المخصص لصناديق الودائع، بحثت عن رقم صندوق كريم إلى أن وجدته، أدخلت المفتاح ثم فتحت الصندوق، فوجدت عشرة رسائل آتية من موطنه، ومجلة علمية. أخذت جميع ما وجدته، ثم توجهت لمنزلها، وفي صبيحة اليوم الموالي، توجهت نحو السجن المركزي لزيارة كريم ومده بما وجدته في صندوقه.
توجه كريم كالعادة نحو المكان المخصص للزيارة، فوجد مارية تنتظره وفي يدها مجموعة من الرسائل ومجلة، عرف أنها نفذت ما طلبه منها.
جلس قبالتها، فقالت له مارية وهي تصافحه:
"تفضل، عزيزي، إليك ما طلبت"
أخذ كريم ما بحوزتها، وتصفحها بعجالة ولهفة المشتاق، فوجد أن الرسائل غالبيتها من حبيبته سعاد، واثنان منها من والديه، إضافة إلى مجلة علمية مشترك بها.
شكرها وطلب منها العودة إلى المكتب الآن لألا يشكل غيابها مشكلة لها. تركته وهي تعده بزيارة أخرى في نفس الأسبوع.
توجه كريم مباشرة نحو زنزانته، وأخذ يقرأ تلك الرسائل التي وصلت له منذ زمن بلهفة وشوق، إلى أن توقف عند واحدة أعاد قراءتها عدة مرات، وفي كل مرة تنهمر دموعه لتبلل الرسالة.
 قالت فيها سعاد:
"كريم، لقد انتظرتك طويلا، وراسلتك حتى جفت أقلامي ودموعي الذي كنت أروي بها رسائلي إليك، لكن للأسف، لم أجد منك تجاوبا.
كنت أنتظر منك إشارة أو بصيص أمل تعبره فيه عن حبك لي وتعلقك بي، لكن، وجدت بالمقابل التهميش والجفاء.
لقد رفضت لأجلك العديد من الخُطّاب، لدرجة أن والدي كانا يؤنبانني في كل مرة أرفض فيها شابا تقدم لخطبتي، وكان سبب رفضي لهم أني مازلت أحبك، وأنك ستأتي يوم لتنتزعني من هنا، فكانا يسخران مني، وكنت صابرة، لأني أعرفك وأعرف أنك تلتزم دائما بوعودك.
لكن، وا أسفااااه، لقد خيبت ظني. ها قد مرّت سنتان ولم يصلني منك سوى رسائل معدودة لم تشف غليلي منك، أكثرت من الوعود حتى مللت، ويئست.
كريم، إن كنت تقرأ رسالتي هاته، فأرجو أن ترد علي، أما زلت تحبني؟ أمازال قلبك ينبض بحبي؟
أرجوك، بل أتوسل إليك، عد بسرعة، فلست أدري كم بقي لي من طاقة لأتحمل ضغط والدي، وها قد أتت سيدة تطلبني لابنها، وأنا مازلت حائرة، ومقاومة لفكرة الزواج إلا منك.
في انتظارك، حبيبتك: سعاد".
أخذ كريم يقبّل الرسالة عدة مرات، ودموع القهر تنهمر شلالا عليها، فهو يعلم جيدا أنه عاجز عن تلبية نداءها، فهو الآن سجين بين جنبات أربع جدران عفنة، بصيص ضئيل من نور يدخل له ليأنس وحشته.
نام وهو يضم تلك الرسالة، وفي صبيحة اليوم الموالي، ناداه سجانه قائلا:
"السجين رقم 511، لديك زيارة"
توجه كريم نحو مكان الزيارات، وهو متيقن أنه سيجد مارية، إلا أنه تفاجأ بمحاميه ومارية وأحمد معا، الكل يبتسم في وجهه.
اقترب نحوهم، وهو يقول:
"ما سر هاته الزيارة المفاجأة وهاته الفرحة التي أراها في محياكم؟!"
لم تقو مارية على الانتظار، فقالت وهي تكاد تصرخ من الفرحة:
"كريم.. كريم.. لن تصدق ما الذي جرى أمس"
ارتفعت نبضات قلب كريم، وهو يقول:
"ما الذي حدث، أخبروني بالله عليكم".
روى له محاميه كل ما حدث، فقد تم القبض ليلة أمس على أحد الموظفين الذين كان يعمل معه في نفس القاعة متلبسا بنفس الجريمة التي اتهم بها، وعند استجوابه، اعترف بأنه من قام بالجريمة الأولى، وذكر لرجال الشرطة  التفاصيل كاملة، حيث قال:
"لقد كنت أتحين الفرصة لأوقع بكريم من منصبه، لأني أنا من يستحقه ليس هو. لقد أفنيت سنوات طوال من عمري في خدمة الشركة، وكنت انتظر مكافأة منها نظير جهدي، لكنها عوض أن تكافأني كافأت هذا العربي الذي أتانا من بلد متخلف ليصبح رئيسا علي.. لا وألف لا"، ثم أردف: " في أحد الأيام، ترك كريم جهاز حاسوبه شغالا، وانصرف، فما كان مني إلا أن انتظرت حتى ذهب الجميع، وانتهزت الفرصة لأقوم من جهازه بسرقة حساب بعض عملاء الشركة وبيعها لمنافسيها".
كان كريم يسمع هذا الكلام، ودموع الفرح تخرج من مقلتيه، ثم قال:
"وماذا بعد؟؟"
أجابه المحامي قائلا:
"سيتم عرضه على المحكمة، وستعاد محاكمتك جراء هاته التطورات"
"الحمد لله، الحمد لله" قالها كريم، وهو يسجد سجدة شكر لله، ثم صافح محاميه وأحمد بحرارة، وكذلك مارية.
مرّ أسبوع على هذا الخبر السار، وفي صبيحة يوم الاثنين، ارتدى كريم بذلة رسمية، وتوجه مع محاميه صوب المحكمة لإعادة المحاكمة، هناك التقى بالموظف المتهم الذي طأطأ رأسه فور رؤيته له خجلا منه، ثم جلس في المكان المخصص له، وبدأت المحاكمة. رافع محامي دفاع كريم، وأدلى بالواقع الجديدة في القضية التي مدها لوكيل النيابة والقاضي، وعند نهاية المرافعة، طلب القاضي من المحلفين رأيهم، فكان الإجماع بالبراءة لكريم، وسجن الموظف.
هنا، صرخت مارية وكبّر أحمد، وقفز كريم من مكانه فرحا، وصافح محاميه، إلا أن هذا الأخير طلب منه التريث قبل الإعلان عن فرحته، فمازالت القضية قائمة.
جلس كريم في مقعده، وأخذ ينظر لمحاميه نظرة إعجاب وامتنان، هذا الأخير قال للقاضي:
"سيدي القاضي، بعد أن تبين لسيادتكم براءة موكلي، فإني أطالب بجبر الضرر الذي لحق به المادي والمعنوي منه، خصوصا وأنه قضى داخل السجن ما يقارب السنتين ظلما وعدوانا".
بعد التشاور، قال القاضي:
"حكمت المحكمة بتعويض السيد كريم بمبلغ قيمته 30 مليون أورو، ونشر اعتذار رسمي في كافة الجرائد الرسمية للدولة".
فغر كريم فاهه عند سماعه لمبلغ التعويض، فلم يدر ما يقول سوى:
"الحمد لله، الحمد لله".
في اليوم الموالي، خرج كريم من السجن، وتوجه مباشرة نحو مقر عمله، هناك استقبله كافة الموظفين بالتصفيق بعدما كانوا يتحدثون من وراءه ويتهمونه بالخيانة.
توجه مباشرة نحو مكتب المدير، الذي فور رؤيته، وقف وتوجه نحوه وهو يقول:
"الحمد لله على سلامتك وعودتك إلينا، وأرجو أن لا تحمل في قلبك ضغينة علينا، فنحن لم نكن نعلم بالحقيقة إلا مؤخرا".
أجابه كريم بأدب:
"سيدي، لست ناكرا للجميل، فأنا أدين لكم بالكثير، لكن يؤسفني أن أخبركم بأني لن أعود لشركتكم، فبلدي أولى بي".
تأسف المدير لكلام كريم، إلا أنه تمنى له الخير والسعادة أينما حلّ.
خرج كريم من مكتب المدير، وتوجه نحو مكتب مارية، التي أخبرها بقراره، فتأسفت هي أيضا، وألحت عليه بالبقاء إلا أنه كان مصرا على قراره. احتضنها لأول مرة بلطف، ثم تركها غارقة في دموعها.
استقل الطائرة، وعاد إلى المغرب، هناك، توجه مباشرة نحو منزل والديه وهو يحمل بعض الهدايا له.
طرق الباب، ففتحت له والدته، وعندما رأته صرخت:
"ولدي.. ولدي" ثم احتضنت بقوة، وذهبت راكضة نحو غرفتها لتجر زوجها وهي تقول له:
"يا حاج.. يا حاج.. لن تصدق من الذي أتى.."
رفع الحاج أحمد بصره، فرأى كريم في كامل صحته وعنفوانه، انحدرت منه دمعة وضمه إليه بدوره وهو يقول:
"ولدي، الحمد لله على سلامتك"
قبّل كريم والده ووالدته، وحكى لهما كل ما جرى خلال السنين الأربع التي قضاها في الغربة. حمدا الله على سلامته وعلى كرم الله عليه، ثم طلب منهما الاستئذان للذهاب عند حبيبته سعاد. ما إن سمعت الحاجة "خديجة" اسم سعاد، حتى تغيرت نبرة صوتها، وشابها بعض الحزن وهي تقول لابنها:
"كريم، ولدي، أعلم أنك تحب سعاد كثيرا، لكن أطلب منك نسيانها"
اندهش كريم من كلام والدته، وقال:
"أنساها، كيف ذلك؟؟ ألا تعلمين مدى تعلقي بها. لقد وعدتها بالزواج، وها أنا والحمد لله أصبح ثريا جدا، وسأفي بوعدي".
"عزيزي، لقد تزوجت سعاد منذ عام مضى بعد أن انتظرتك طويلا"
"تزوجت، كيف ذلك؟"
حكت له والدته كل شيء، إلا أنه لم يصدق كلامها، فتوجه نحو منزلها، وسأل عنها والدتها التي تفاجأت بقدومه، فأخبرته بالحقيقة، ومنحته عنوانها، وطلبت منه أن لا يقترب منها إن كان يعزها حتى لا يتسبب لها بمشاكل مع زوجها لؤي. وعدها بذلك رغم مرارة الخبر الذي وقع عليه.
رآها كريم من بعيد، فخفق قلبه لها، إلا أنه تذكر وعده لوالدتها، فنفض فكرة مقابلتها وجها لوجه. رأها تجر عربة بها طفل صغير، فعلم أنه ابنها. تبعها بسيارته الفخمة خلسة إلى أن وصل إلى مستشفى الأطفال. وجدها تدخل عند الطبيب المتخصص بعلاج تشوهات القلب، فاعتراه قلق أن تكون مصابة بمرض القلب أو طفلها، وانتظر حتى خرجت، فأدار ظهره إلى أن غادرت الرواق، ثم دخل عند الطبيب. قدم له نفسه على أنه أحد أقارب سعاد، وطلب منه أن يخبره بسبب زيارتها له. أجابه الطبيب قائلا:
"تزورني سعاد بين الفينة والأخرى لتخبرني هل هناك أخبار جديدة عن متبرع بالقلب"
"متبرع بالقلب؟؟!" قالها كريم بدهشة.
"نعم متبرع بالقلب، طفلها مصاب بثقب في القلب وهناك حلين لعلاجه، إما عملية جراحية، وهي مكلفة جدا، وإما انتظار متبرع بالقلب لنزرعه لطفلها".
سأله كريم بلهفة:
"وكم تبلغ تكلفة العملية؟"
أجابه الطبيب:
"حوالي عشرين مليون سنتيم".
طلب منه كريم إجراء العملية فورا، وهو مستعد لسداد المبلغ بأكمله دفعة واحدة، لكن بشرط أن لا يخبر سعاد بما جرى بينهما، ومدّه بشيك به المبلغ كاملا.
شكره الطبيب على كرمه، وهاتف زوج لؤي في تلك اللحظة.
خرج كريم وهو يشعر بسعادة غامرة، فها قد ساعد حبيبته الذي طالما تمنى سعادتها سواء معه أم مع غيره. وقد تحققت أمنيته.
دخل لؤي بسرعة لمنزله، وضم زوجته سعاد بسعادة وقبل ابنه كريم بشدة، وقال لهما:
"لقد اتصل بي الطبيب وأخبرني بأنه مستعد للقيام بعملية جراحية من أجل ابننا"
"كيف ذلك؟" قالتها سعاد وهي تضيف: "العملية تكلف عشرون مليونا، فأين لنا بهذا المبلغ؟؟"
أجابها لؤي وهو يبتسم:
"هناك فاعل خير، قام بدفع المبلغ كاملا"
"الحمد لله، الحمد لله" قالتها سعاد وهي تضم ابنها، وتقول له:
"حبيبي الغالي، ستجري عملية تشفيك تماما، فهل أنت سعيد؟"
ابتسم الصغير كريم، ابتسامة بريئة، دون أن يفهم شيئا من والدته، فمازال عمره صغيرا.
أجريت العملية بنجاح، وظل الصغير كريم في المسـتشفى أسبوعا بأكمله من أجل المراقبة، وبعد التأكد من خلو العملية من تبعات وآثار جانبية، أذن له بالخروج. توجهت سعاد وهي تحمل صغيرها نحو المكان المخصص لدفع مستخلصات العمليات الجراحية، وطلبت من الممرضة المكلفة بأن تخبرها عن اسم هذا المحسن الذي أنقذ طفلها. رفضت الممرضة إعطائها اسمه، لكن بإلحاح من سعاد، مدتها بعنوانه فقط وقالت:
"لم يمنحنا اسمه، فقط عنوانه، وشيكا باسم البنك الذي يتعامل معه".
سجلت سعاد عنوان فاعل الخير، وتوجهت سعاد وهي تحمل الصغير كريم بعد أن اتصلت بزوجها لؤي، وطلبت منه مرافقتها لشكر هذا المحسن.
توقفا نحو فيلا ضخمة بها حديقة مليئة بالأزهار المختلفة الألوان، دق جرس الباب، فخرجت إليها خادمة تلبس لباسا أنيقا وهي تقول:
"مرحبا.. هل لي بمعرفة سبب مجيئكما؟"
تلعثمت سعاد وهي تقول:
"نريد أن نقابل سيدك، فهل نستطيع؟؟"
"وهل لديكما موعد؟؟"
"لا .. لكن نريد أن نقابله لأمر هام"
طلبت منهما الانتظار في الخارج، وبعد برهة، دعتهما للدخول، وتوجهت بهما نحو صالة الضيوف.
جلست سعاد ولؤي، والصغير كريم، على أرائك وثيرة، وأخذ الصغير يلهو بأصابعه، إلى أن دخل كريم إليهما.
توقف الزمن عندما التقت نظرات كريم وسعاد، فانتفضت من مكانها وهي تقول:
"غير ممكن.. لا.. مستحيل".
نظر إليها لؤي باستغراب، وأخذ يبادل نظره بينها وبين هذا الرجل الذي دخل عليهما، وهو يتساءل في نفسه عن سبب ردة فعل زوجته تجاه هذا الوافد.
انهمرت دموع حارة من عيني سعاد، وكذلك فعل كريم، إلا أنه تمالك نفسه، وتوجه نحو زوجها وهو يقول:
"مرحبا بكما في منزلي متواضع"، صافحه بلطف، وعندما مدّ يده ليصافح سعاد، ارتمت نحوه سعاد، متناسية أن زوجها بقربها، ثم قالت له:
"لماذا عدت..؟؟ لماذا عدت؟؟" ، ثم أجهشت بالبكاء من جديد.
ظل كريم صامتا، فقال لؤي:
"بالله عليكما، ألن تخبراني ما الذي يحصل هنا؟؟"
اعتذر منه كريم، وقصّ عليه حكايتهما، وطلب منه أن يقبل اعتذاره عن تدخله في حياته الجديدة، إلا أن لؤي لطيب أخلاقه، وتفهمه، قال له:
"لا عليك، أنا الذي يطلب منك الصفح، فما فعلته من أجل ابننا الوحيد لأكثر من أن انظر إلى مثل هاته الأمور، فشكرا لك".
ثم أردف:
"الآن عرفت لماذا أسمت سعاد ابننا كريم، لأنه لم تسـتطع نسيانك".
سعد كريم بتسمية حبيبته سعاد لابنها باسمه، ثم طلب منهما بتكرار زيارتهما له، وطلب من زوجها بعدما أن علم أنه كان يعمل في شركة والدته أن يعمل لديه كمسـتشار في نفس تخصص شركة أسرته، فوافق على الفور.
مر شهر على ذلك اللقاء الحميمي، وفي أحد الأيام، دق جرس الباب، ففتحت الخادمة كالمعتاد، وبعد برهة طلبت من الوافد الجديد الدخول، وصحبته لقاعة الضيافة.
تساءل كريم عن ماهية الزائر، وعندما دخل، وجد سيدة محجبة ومطأطاة رأسها، وعندما رفعته، صدم كريم بما رأى.. فرك عينيه غير مصدق، وهو يقول في نفسه:
"أيعقل أن تكون..."
ابتسمت السيدة في وجه كريم وهي تقول:
"ألم تعرفني.. أنا مارية"
"كيف يعقل أن..."
قاطعته مارية وهي تبتسم في حياء:
"لقد أسلمت، بعد مطالعتي للدين الذي أحببتني إليه بأخلاقك، والحمد لله أن هداني للإسلام، ولقد أتيت من إيطاليا بعد أن لقنت الشهادتين في المسجد المركزي بروما، خصيصا إليك لأبشرك بهذا الخبر.
سعد كريم جدا لما سمعه، وخفق قلبه بشدة، فها هي مارية التي كانت أنيسه ورفيقه في الغربة وفي السجن قد أسلمت.. حكت له تفاصيل إسلامها.. وكان يستمع إليها وفي كل مرة يقول: "الحمد لله .. الحمد لله".
مرّ شهران على زيارة مارية لمنزل كريم، وعودتها إلى إيطاليا، حتى لحق بها كريم، وطلب منها الزواج بعد أن أدرك أنه يحبها منذ زمن طويل إلا أنه كان يكابر ويخدع نفسه بأنه مازال يحب سعاد.
فرحت مارية بطلب كريم يدها، فوافقت على الفور، فكانت تلك هي أمنيتها الغالية، وقد حققها لها الله سبحانه، فكانت أحسن مكافأة وهدية بعد إسلامها.

تمت
20/07/2012 

هناك 10 تعليقات:

  1. هذا ما كنت أتوقع. لكن أن تقبض على أنفاسي وأنا أقرأ النهاية.هذا ما لم يخطر على بالي.ولم أضرب له حساب.نعم لقد بعترت أفكاري .حتى أصبحت عاجزا عن الإتمام لقد أأجهشتني بكاء حقا.وأنا أعلق عليك.قصة غاية في الروعة والإتقان.شكرا لأنك حققت ما كنت أحلم به أن تلد هاته الأرض الطيبة كاتب من طينة المصريين.فألف شكر لك أبصم لك بالعشرة أنك موهوب.موهوب بالفطرة.

    ردحذف
  2. أعجز عن وصف روعة القصة التي لها صبغة خاصة من المفاجآت و التشويق، فمزيدا من كتابة القصص وفقك الله أخي...
    ـ الحب مصدره الأخلاق النبيلة و الصبر و التضحية و أساسه الايمان بقضاء الله و قدره.
    شكرا أخي خالد فاجأتني في الجزء الأخير عندما رأيت الاسم، فأنا ممتنة لك أخي، بارك الله فيك و حفظك الرحمان و رمضان مبارك كريم بالمغفرة و نيل التواب و الأجر العظيم.

    ردحذف
  3. وأخيرا انتهت القصة.. هههه تبارك الله عليك..

    سؤل يتبادر إلى الذهن: هل يمكن لرجل أن يحب امرأتين بجنون؟؟ لا أعتقد

    ردحذف
  4. شكرا كانت قصة ممتعة مليئة بالتشويق ولقد تعلمت منها الكثير أشكرك مرت أخرى ومزيدا من العطاء في هذا المجال

    ردحذف
  5. وأخيراأنتهيت من قراءتها باسترسال.

    ردحذف
  6. لم تكن قصة عادية ،
    كانت قصة رائعة ، بل و خلابة ..
    قرأتها من الجزء الاول إلى الأخير مرة واحدة ،
    و استمتعتُ بها جدًا ..

    خاصةً أنَّكَ مزجتَ بينَ حيثيات كثيرة ،
    كانت قصة مشوقة .. للغاية ..

    سعيدةٌ لأنَّكَ أنهيتها بنهايةٍ سعيدة للجميع ،
    كما أحبّ ،
    و ليس بنهايةٍ بائسة و حزينة ..

    " خلف الأسوار "
    قصة خلابة !

    دمتَ بخيرٍ ..

    تحيآاتي لكْ ..

    ردحذف
  7. كما وعدتك اخى وصديقى الغالى " خالد آبجيك " ان ردى سـ يكون مع خاتمة رائعتك القصصية ..
    واعتذر فى نفس الوقت على تأخرى فى الرد كذلك ..
    خلف الاسوار .. والقصة تبدأ من عنوانها ، وتتحدث عن نوعين من الغربة والعزلة فى نفس الوقت ..
    من ناحية نرى غربة الشاب فى وطنه الذى لا يجد فيه لقمة عيشه .. فـ يسعى إلى تغريبة الهجرة والخروج عن الوطن .. وهناك كذلك عزلة فرضها على نفسه .. بـ مكوثه خلف شاشات الكمبيوتر والعالم الافتراضى .. اثناء " بطالته " وتحيته لـ فرصة العمل الخارجية .. هنا نرى الاسوار تظهر فى شرنقته الاولى قبل ان يخوض غمار العمل ، ومغامرة السفر إلى الخارج ..
    نفس الشىء لـ الفتاة المحبة " سعاد " والتى تفرض على نفسها عزلة او سورا تصنعه هى بحبها .. لهذا الفتى الذى لم يتحدد مستقبله بعد .. فـ تؤثر به على نفسها .. وتفرض سورا او سياجا لمن يتقدم ويريد خطبتها ..
    نرى الاسوار فى حياة الفتاة " سعاد " متجلية بعد سفر الحبيب " كريم " واعتقد ان " اسوارها " كانت اشد قسوة من سياج سجنه الذى حدث فيما بعد ..
    الاسوار الثانية كانت فى علاقته المطمورة مع رفيقته الايطالية " ماريا "
    ورغم ان الكاتب جعل " كريم " يشعر فى النهاية انه كان يحبها .. ولكن من خلال القصة فهمنا غير ذلك .. فهو برغم كل شىء لم يكن ينظر إليها اللهم نظرة صداقة او زمالة .. برغم ان البديهى ان الرجل يشعر بالحب ويصرح به حتى قبل المرأة " التى يمنعها حياءها ان تعلنه قبل ان تسمعها من الرجل "
    واعتقد ان " كريم " لم يحب " ماريا " كما انه لم يحب " سعاد " كذلك .. فهو كان طموح لدرجة انسته ان هانك قلبا ينتظره فى الوطن ، ويتجاهل رسائلها ، ويتقاعس فى الرد عليها ، وربما او هكذا اراه .. اعماه الطموح إيضا عن مشاهدة هذا الحب " القريب منه المتمثل فى شخصية ماريا "
    القصة فيها تشابه نوعا من رواية الكاتب " انيس منصور " ومن الذى لا يحب فاطمة " خاصة فى شخصية " ماريا " واخلاصها وحتى تضحياتها وتعمدها اغفال نفسها وحبها " بعد قراءتها لـ رسالته لـ حبيبته "
    وهذه ملاحظة اخذها على الكاتب " فـ المفترض انه كتب الخطاب باللغة العربية او ربما استخدم الفرنسية بما انها اللغة الثانية لـ اهل المغرب .. فـ كيف لـ ماريا ان تفهم العربية او الفرنسية وهى تتحدث الايطالية فقط .. حيت ان الكاتب اغفل اللغة التى كتب بها الخطاب ..وكذلك اللغات التى تتحدثها ماريا ..
    كذلك كانت هناك بعض الملاحظات " تويبيا الحياة فى الخارج " او المدينة الفاضلة التى وجدناها فى القصة "
    فعلى سبيل المثال قلما نجد ان موظف مبتدىء سافر إلى الخارج ، وحصل على الامتيازات التى حصل عليها " كريم " من اليوم الاول .. وكل الشخصيات الودودة هذه .. لا تجدها فى ارض الواقع .. بل يكون هناك فترة لـ التعارف والدراسة وآحيانا التوجس وخلافه .. وبـ استثناء " هذا الموظف الذى تربص به..

    ...
    يتبع

    ردحذف
  8. نوعية القصة التى قرأنها .. هى حالة بين القصة الطويلة والرواية .. وأحمد الله ان قرأت اخيرا قصة طويلة لاحد الاصدقاء ممن عرفتهم عبر المنتديات .. بـ استثناء الحبيب " اشرف كمال " و هكذا دخل الحبيب " sohba " بوابة النوفيل الطويلة من خلال مدونته ..
    وهى مترابطة ومتماسكة كثيرا من حيث السرد واللحمة والحبكة ، والحوار والاحداث .. هذا ما يجعلها اشبه بالرواية إيضا ..
    وهى كذلك تعبر عن حالة من الفنتازيا الرومانسية التى يتخللها شى من الواقعية .. بـ استثناء التعويض المالى الضخم وهو الشىء الواقعى الوحيد فى القصة " حيث ان من القوانيين الصارمة فى الغرب تعويض كل من يضر ويدان ظلما فى قضية تمس الشرف ، وقد تصل هذه التعويضات إلى ارقام فلكية ،
    وكذلك شخصية " سعاد " التى اراها منطقية نوعا .. بـ استثناء لقاءها مع "كريم " فى الفصل الاخير ، وكذا إنقلاب حماتها عليها بدون مناسبة .. الا اذا كانت هناك فقرة " تجاهلها الكاتب فى العلاقة بين الحماة وزوجة الابن ، وجعلها مبهمة حتى يستنتج القارىء ما بين السطور وهذا شىء يتنافى مع هذا النوع من القص الروائى "
    كانت لغة الحوار الرومانسى التى تناسب طبيعة صديقنا " خالد " الودودة الرومانسية غالبة وحاضرة .. اثناء خطابات وحوارات كل من " كريم ، وسعاد "

    اما الخاتمة فهى اربكتنى كثيرا .. فهوتآرجح بين حنينه لـ حبيبته السابقة وربما ارادا ان يغلق باب العلاقة " فكان تكفله بـ جراحة " كريم " الصغير ، وعلاقته بـ ماريا ، والتى كانت من خلال القصة كما يكتبها صديقنا " خالد " مارية ، واعتقد انه اختار الاسم وكتبه هكذا حتى تكون قريبة او هكذا رأيتها من السيدة " مارية القبطية رضى الله عنها زوج الرسول صلى الله عليه وسلم "

    الحبيب " خالد "
    كنت هنا فى قصتك الروائية .. وهى فيها الكثير ما يقال حقا ، ولكنى اكتفى بما كتبته ..
    واشكرك على دعوتى لـ القراءة فى مدونتك الجميلة بكل ما تحتويه ..
    واتمنى ان اكون قد وفيت بـ وعدى فى الرد عليها بما يرضيك
    وكل عام وانت بت الف الف خير

    تحياتى
    أحمدخيرى

    ردحذف
  9. أخي وأستاذي الغالي أحمد خير،
    لا تدري مدى سعادتي بقرائتي لدراستك النقدية لقصتي "خلف الأسوار"، وشرف لي أن تشبهها بقصة "ومن لا يحب فاطمة" للكاتب الكبير أنيس منصور..
    تعجز الكلمات عن شكرك على هاته القراءة الطيبة.. وأعدك بالعمل بملاحظاتك في القادم من الأعمال، بإذن الله تعالى..

    ردحذف
  10. والله لو قلت مبدع لما كفت ولو قلت رائع ما كفت ولو قلت ما قلت لن أجد ما يفيك حقك..
    حفظك الله ورعاك، ولا حرمنا من حرفكم الحنون ...
    سلمت أناملك

    ردحذف