الحرية لعلي أنوزلا

الأحد، 15 يوليو 2012

خلف الأسوار -ج13


لمن فاتته الأجزاء السابقة، إليكم روابطها:


***************
شكره كريم على كرمه ولطفه، وجلس يأكل طعامه ويتبادل معه أطراف الحديث، وأخذ يروي كل واحد منهما قصته للآخر، فاكتشف كريم  أن هذا الشيخ عربي الأصل، كان موظفا في أحد البنوك، ولمرض أحد أبناءه ودخله الذي لا يسمح له بعلاجه، اضطر إلى اختلاس مبلغ كبير من البنك الذي كان يعمل به، لكن أجهزة المراقبة ضبطته متلبسا، فأودع السجن بتهمة محاولة السرقة وحكم عليه بالسجن مدة طويلة، كان من نتائجها أن توفي ابنه المريض، وها هو الآن في السجن يجر الندم والحسرة.
مرّت ستة أشهر على دخول كريم السجن، واظبت فيها مارية وأحمد على زيارته كلما سنحت لهما الفرصة.
 ذات صباح، أتت مارية لزيارة كريم والفرح باد على وجهها النضر، رآها كريم خلف شبّاك حديدي، فأشار لها أن يلتقيا في المكان المخصص للزيارة وهو يتساءل عن سبب كل ذاك الفرح الذي يعلو محيا صديقته. صافحته ومدّت له ببعض الأطعمة التي دأبت على إعدادها له، إضافة إلى بعض الألبسة الجديدة، ثم قالت له:
"لقد وافقت المحكمة على إعادة فتح ملفك من جديد نزولا عند طلب محاميك".
"الحمد لله" قالها كريم وهو يخرج زفرة ارتياح، فأمسك بيدي مارية التي تفاجأت بتصرفه، ونظر مباشرة إلى عينيها وقال:
"لا أدري كيف أشكرك.. لولاك لما تحملت العيش في هذا المكان الكئيب يوما واحدا".
توردت وجنتا مارية بلون أحمر أضفى إليها جمالا على جمالها، فأشاحت بناظريها عنه وقالت:
"هذا أمر عادي، فأنا متأكدة من براءتك، لأني منذ عرفتك وأنا أرى فيك الرجل الشهم الشريف، الذي لا يرضى بالحرام والخيانة".
وفي نفس الوقت، وعلى بعد آلاف الكليومترات، كانت سعاد تكتب لحبيبها، وهي التي واظبت على مراسلته أشهرا معدودة دون أن تسـتقبل ردا على رسائلها، وتسـتجديه أن ينقدها من هذا الوافد الجديد الذي أتى لخطبتها، خصوصا وأن والدتها ووالدها مصران على إتمام الخطبة والزواج، روت رسالتها بدموع حارة علّ كريم يراها فيأتي مسرعا لنجدتها، لكن خاب أملها بعد مرور شهرين على كتابتها دون أدنى أثر لحبيبها. ومع ضغط الوالدين، وإصرار السيدة سناء على إتمام الخطبة لأن ابنها شغف سعاد حبا، رضخت للأمر صاغرة.
كان زفافا كبيرا، في أفخم فندق بالمدينة، حضره علية القوم من أصدقاء السيدة سناء، بحكم أنها من ذوي النفوذ في المنطقة، كان الجميع سعيدا بهذا الحدث، ما عدا سعاد، التي كانت تنظر للجميع نظرات خاوية، وعقلها مغيب تماما، لأنه كان أسير حبيبها كريم الذي لم تستطع نسيانه، لاحظت والدتها شرودها، فتوجهت إليها وهي تبتسم للضيوف وقالت لها وهي تنحي نحوها:
"سعاد، عودي إلى الواقع فأنت الآن أصبحت زوجة رجل آخر، حاولي أن تنسي كريم، لأن قدركما أن يشق كل واحد منكما طريقه بعيدا عن الآخر، ارضي بما كتبه الله لك.. عزيزتي، ابتسمي لضيوفك، فما ذنبهم أن يروك عابسة هكذا في يوم تفرح فيه من هن بمثل سنك".
نظرت إليها سعاد وهي تقول لها دون أن تنبس ببنت شفة: "أمي، أرجوك، خديني من هذا المكان، لا أسـتطيع التنفس، أكاد أختنق.. أمي، كيف أبتسم وسبب سعادتي بيني وبينه أميال طويلة !؟ أرجوك، أتوسل إليك، أيقظيني من هذا الكابوس لأعود لرشدي".
ربتت والدتها على كتفها برفق، فأيقظتها من شرودها، وأعادتها إلى واقعها الذي حاولت الهروب منه، فلم تجد بدا من الابتسام للضيوف الذين أتوا لزفافها.
مرّ شهران على زفاف سعاد من لؤي، كان هذا الأخير في قمة سعادته، فقد تحقق حلمه أخيرا، وحاول بكل ما يملك من قوة أن يزرع البسمة على وجه زوجته، ولم ييأس. وكأن السعادة حُرّمت على سعاد.. ففي أحد الأيام، دخلت حماتها سناء إلى الفيلا التي تقطن بها مع ابنها وزوجته وهي تستشيط غضبا، وتصرخ في وجه كل من تقابله، سمعتها سعاد من غرفتها، فنزلت مهرولة على الدرج، وقالت لها:
"خالتي، ما بك، خيرا إن شاء الله".
"خيرا!؟ وأين سيأتي هذا الخير؟ كان يوم شؤم أن دخلت لمنزلنا، يا ليتني لم أوافق على زواجك بابني الوحيد.. يا ليتني".
صعقت سعاد من خطاب حماتها، وأحست بخنجر حاد اخترق قلبها، فلم تجد سوى الدموع لترد على كلامها، صعدت مسرعة إلى غرفتها، وارتمت على سريرها الوثير وأخذت تشهق بالبكاء، فدخل لؤي ليجدها على تلك الحال، اعتراه القلق، فاقترب نحوها، وضمها إليه بحنان وهو يقول:
"ما خطب حبيبتي ومهجة قلبي؟"
أخذت سعاد تشهق، وتتمتم بكلمات غير مفهومة، فاشتد قلق زوجها، وهو أخذ يمسح دموعها بيديه، وقال والقلق باد في نبرة صوته:
"سعاد، ما الأمر، صارحيني أرجوك؟"
استجمعت سعاد قوتها، وصارعت لأن تحبس دموعها فقالت له:
"اسأل والدتك"، ثم عادت تجهش بالبكاء.
ذهب لؤي إلى والدته، فوجدها تبكي هي الأخرى بعدما جعلت غرفتها في حالة يرثى لها من الفوضى الذي صنعتها بهستيريتها. رفعت بصرها فوجدته أمامها، فلم تشعر إلا وهي تقفز نحوه وتضمه وتقول:
"حبيبي، إن كنت تحبني فعلا، فأرجوك أن تنفذ طلبي".
"أماه، ما هذا الكلام، طبعا أنا أحبك، وسأنفذ كل ما تطلبينه مني.. فمنذ متى كنت أخالف أوامرك؟!"
"إذن عليك أن تطلق زوجتك".
انتفض لؤي من مكانه كمن ضربته صاعقة، ونظر إلى والدته نظرة اندهاش وعدم تصديق، خيل له أنه لم يسمع جيدا، فقال لها:
"ماذا قلت؟!"
"قلت، طلق زوجتك"
"لماذا يا أمي، ألست أنت من اقترحها علي أول مرة، فجعلتني أتعلق بها تعلقا لا أستطيع التخلص منه".
"يا ليتني لم أعرفك بها، ويا ليتني مت قبل أن أخطبها لك"
"لا تقولي هذا الكلام، أماه، ما الذي فعلته سعاد حتى تنقلبي عليها هكذا؟"
"هي السبب.. هي السبب"
"هي السبب في ماذا؟!"
"بسببها تهاوت أسهم شركتنا كثيرا، وتكبدنا خسارة فادحة لسـت أدري كيف يمكننا التعامل معها"
لم يقتنع لؤي بكلام والدته، فقال:
"وما ذنب سعاد من كل هذا، فهي لم تقرب يوما لشركتنا"
ارتفعت نبرة صوت سناء وهي تقول لابنها:
"لا يهمني، المهم أنها كانت شؤما على عائلتنا، وإن لم تنفذ أوامري فلن أكون أمك، ولن تكون ابني".
صدم لؤي من كلام والدته، ولم يعلق عليه، بل خرج من غرفتها مسرعا نحو زوجته، وتوجه مباشرة نحو دولاب ملابسهما، وأخذ يجمع ملابسه وملابس سعاد في حقيبة كبيرة. نظرت إليه سعاد وهي تكفكف دمعها، وتقول:
"لؤي، ماذا تفعل؟"
أجابها لؤي:
"ماذا ترين؟ أجمع ملابسنا، سنغادر هذا المكان فورا"
"لماذا؟"
روى لها كل ما جرى بينه وبين والدته، فما كان من سعاد إلا أن خفق قلبها لأول مرة له لموقفه النبيل ودفاعه عنها.
نزلا الدرج معا، فرأتهما سناء وصدمت عندما وجدت ولدها يحمل في يده اليمنى حقيبة كبيرة، فقالت:
"ماذا تحمل في يدك يا لؤي؟"
"كما ترين، أحمل حقيبة بها ملابسي وملابس سعاد، سنترك لك هذا المنزل كما ترغبين"
صعقت سناء من كلام ابنها، فقالت له:
"لم آمرك بأن تتركني، كل ما أردته أن تترك هاته المشؤومة فقط"
"سعاد هي نصفي الآخر، ولا أستطيع الاستغناء عنها، فإن أردت سنبقى سوية، أو نرحل معا".
عقد لسان سناء، فلم تحر جوابا، بل أشاحت بناظرها عنهما وقلبها يعتصر ألما، لأنها تعلم أن ابنها لن يغير رأيته، فقد خبرته، وخبرت عناده.
وعند وصول لؤي وسعاد لباب الفيلا، اسـتدارت سناء وقالت لابنها بصوت مرتفع:
"إن خرجت من هذا الباب، فلن تعود إلى هنا أبدا، ولا تفكر في العودة إلى عملك أيضا"
لم يجبها لؤي، واكتفى بالإمساك بيد سعاد، وخرجا معا من منزل والدته الذي عاش فيه سنين طويلة.
توجها مباشرة نحو البنك  الذي يتعاملا معه، فسحب لؤي نصف حسابه منه، ثم ذهب عند أحد أصدقائه الذي يعمل في إحدى الوكالات العقارية، وطلب منه أن يجد له بيتا يكتريه، فكان له ذلك.
دخلا في منتصف الليل لأحد المنازل الواقعة على مشارف المدينة، كان مهترئا بعض الشيء، ولم يجدا فيه سوى حصيرة واحدة فقط، كانت ملقاة على الأرض. أخرجت سعاد ما كان في حقيبتهما، فوجدت إزارا وضعته فوق الحصيرة، ودعت زوجها للنوم. لبى لؤي الدعوة، وتظاهر بالنوم، إلا أن عقله كان يفكر في كل ما جرى، ويحاول البحث عن حلول لمأزقهما. ظل على هاته الحال حتى أشرقت الشمس، فنهض من مكانه، وترك سعاد تغط في نومها، وخرج وقد عقد العزم على البحث عن عمل جديد.
طاف لؤي بين شركات عدة، وعرض عليها خدماته وتجاربه، إلا أنه كان يقابل دائما بنفس  الرد: "لدينا ما يكفينا من الموظفين، وإن كان هناك مكان شاغر سنقوم بالاتصال بك".
دب اليأس في نفسه، وعاد مطأطئ الرأس نحو منزله الجديد، فتح الباب، فوجد سعاد تنظر إليه في تساءل، ثم فجأة أمسكت بيدها فمها، وتوجهت مباشرة نحو الحمام، أخذت تقيء بشدة، ثم دارت بها الأرض، فسقطت فاقدة الوعي. هرول نحوها لؤي، فوجدها على تلك الحالة.. أخرج هاتفه النقال بسرعة وطلب الإسعاف..
في المسـتشفى، اسـتفاقت سعاد من إغمائها وهي ما تزال تحس بالدوار، وقالت للؤي الذي وجدته يمسك بيدها في حنان:
"أين أنا؟"
أجابها لؤي وابتسامة كبيرة تعلو محياه:
"في المسـتشفى حبيبتي"
"في المستشفى؟!" قالتها سعاد مسـتغربة، وأردفت:
"وما الذي أفعله في المسـتشفى؟!"
"لقد أغمي عليك في المنزل، فاضطررت لنقلك إلى هنا"
"وما كان سبب إغمائي؟ على حد علمني لا أعاني من أي مرض، أيكون ضغطي ارتفع بسبب ما عانيناه أمس من أحداث؟؟"
"ليس ضغط يا حبيبتي.. بل شيء آخر.. شيء جميل..جميل جدا"
"شيء جميل؟! وما هو الشيء الجميل الذي سيسبب لي الدوار والغثيان والإغماء؟؟!!"
"أنت حاااااااااااااااامل"، نطقها لؤي وهو يصرخ فرحا ويقبلها على جبينها، ويتحسس بطنها برفق.
نظرت إليه سعاد غير مصدقة، وقالت:
"أأنت متأكد مما تقول؟"
"نعم حبيبتي، فلقد فحصتك الدكتورة، وقالت لي بأن سبب الدوار والغثيان هو الحمل، أما الإغماء فكان نتيجة هذا التحول المفاجئ الذي لم يستطع جسمك تحمله، خصوصا مع الأحداث الأخيرة التي عشناها".
فرحت سعاد بخبر حملها، وطلبت من زوجها أن يخرجها من المسـتشفى لأنها لا تريد البقاء فيه، خصوصا وانه سيكلفهما مالا كثيرا، وحالتهما المادية الآن ليست كما كانت عليه في السابق.
عند دخولهما للمنزل، تفاجأت سعاد بأثاث جميل، متواضع ومتناسق، فنظرت إلى زوجها الذي قال لها وهو يقربها نحوه:
"ما ترينه الآن هو عربون امتناني لك، لأنك ستكونين سببا في أن أصبح أبا".
"هذا كثير.. كثير علي حبيبي".
"حبيبي.. حبيبي.. لأول مرة أسمعها منك منذ تزوجنا.. أرجوك أن تعيديها على مسامعي"
احمرت وجنتا سعاد خجلا، وقالت:
"حبيبي.. "
"الله، ما أجمل هاته الكلمة وهي تخرج من ثغرك الجميل"
ثم ضمها إلى صدره بحنان، وطلب منها الاسـتلقاء على السرير لترتاح، وبشرّها بأنه وجد عملا في ميدان البناء، ولو أنه بعيد كل البعد عن تخصصه، إلا أن ظروفهما الآن تحتم عليه العمل في أي مجال كيفما كان.
مرّت تسعة أشهر على حمل سعاد، واقتربت ساعة الولادة. أتاها المخاض في منتصف شهر رمضان، فتوجه بها لؤي نحو مستشفى الولادة، هناك وضعت مولودها، بعد معاناة شديدة من المخاض، لم تهنئ إلا بعدما سمعت صراخ وليدها، الذي كان ذكرا، غير أنها عندما رأته وجدت ملامحه تميل إلى الزرقة، فاعتراها قلق خفي..
و
يتبع.. 

هناك 3 تعليقات:

  1. مساء الورد خالد

    للأسف لم اقرأ الأجزاء السابقة وبإذن الله سأعود

    إليها مع أنني استمتعت كثيراً بهذا الجزء

    سواء من طريقة السرد أو تسلسل الأحداث والبعد

    عن الملل فاهنيك على هذا وبإنتظار الجزء القادم

    بإذن الله بمزيد من التشويق ..

    تحياتي وإحترامي

    ردحذف
  2. قرأت ما سبق كله على دفعات

    جميلة و مشوقة
    فى انتظار البقية

    ردحذف
  3. رائعة ياخالد الراقي

    أستمر وإلى الأمام أخي الغالي

    دمتم بكل ود

    ردحذف