أمر زوجته بأن تعد له حقيبة السفر،
فموعد الرحلة قد اقترب. أخذت على عجل توضب ملابسه وكل ما يحتاج إليه في سفره
بعناية فائقة. بدأ ينظر إلى ساعته في توتر.. لم يستطع الصبر، فأخذ الحقيبة عنوة من
زوجته، وقال لها: "إن انتظرت حتى تكملين توضيبها فلن ألحق بالطائرة".
سقطت الزوجة على الأرض بعنف وهي تكبت
دموعا حاولت التسلل إلى خديها. توجه نحو باب الغرفة، ونظر إليها بازدراء ثم صفق
الباب من خلفه وخرج.
وصل إلى المطار الدولي، واستقل الطائرة
المتوجهة إلى فرنسا. كان قد أخبر زوجته بأن لديه عمل هام ومصيري بفرنسا، وفي الحقيقة
سبب سفره لم يكن سوى موعد غرامي مع خليلة له يلتقيها كلما سافر إلى أوربا، في غفلة
من زوجته.
جلس على المقعد المخصص له، وجلست بقربه
فتاة شقراء، تعتمر قبعة أنيقة، وتلبس فستانا أحمرا طويلا أخفى مفاتنها. أراد أن
يبدد الصمت ويرمي الصنارة التي اعتاد أن يرميها كلما كانت الفريسة فاتنة، فهذه
طبيعته، فسألها: "سيدتي، هل لي أن أعرف كم الساعة الآن؟". نظرت إليه
بتعال، ثم نظرت إلى معصمه الأيسر وقد برزت منه ساعة ذهبية، لم تنبت ببنت شفة،
وأشارت بعينيها إلى معصمه، ففهم الإشارة، وعاد أدراجه خائبا. أخذ يتصفح الجريدة،
وفي عقله بدأت تنسج المؤامرات والخطط من أجل الإيقاع بهاته الفريسة، فأنَفَتُه
وكبريائه لا يقبلان أن تصُدّه أية امرأة كيفما كانت، خصوصا وأنه معروف عند أقرانه
بصائد الغزلان أو روميو زمانه.
بينما هو يخطط، إذ بإحدى المضيفات
تقترب منهما، وتطلب من كل واحد ما يريد من طعام، فالرحلة ستطول. قال في نفسه:
"هذه هي فرصتي"، فتسربت منه ابتسامة ماكرة. طلب منها كأسا من الشمبانيا
الفاخرة، وقطعة لحم مشوي وسلطة، وأضاف: "وأي شيء تريده هاته السيدة سأدفع
ثمنه بنفسي". نظرت إليه السيدة الشقراء باستغراب، ثم أخبرت المضيفة بأنها لا
تريد شيئا. أتى جوابها كصفعة مدوية على خد صائد الغزلان، فتحسسه بشكل لا إرادي من
وقع ردة فعلها التي لم تكن في الحسبان. تأفف بحنق، ثم عاد يتصفح الجريدة.
بينما هو كذلك، إذ أحس، كغيره، باهتزاز
الطائرة، فأخذ القلق يذب في أوصاله، وبدأت همهمات تعلو بين الركاب.
أخذت إحدى المضيفات الهاتف الداخلي
للطائرة، وأخبرت الجميع بأن هذا الأمر طبيعي، فالطائرة الآن تمر بأحد المطبّات
الهوائية. عاد بعض الارتياح إلى الركاب، إلا أن صاحبنا "روميو" لم يطمئن
للنبرة التي نطقت بها المضيفة، وأخذ يردد ما حفظ منذ الصغر من الآيات القرآنية،
ولو أنه لم يكن يصلي أو يقوم بأي شعيرة من الشعائر الدينية.
بينما هو يردد الآيات بصوت خفيض، إذ
اهتزاز آخر وقع، فأمسكت السيدة الشقراء بذراعه وضغطت عليه من شدة الخوف والقلق. لم
تستغرق مفاجأة روميو إلا ثوان، حتى نسي القرآن وما كان يردد، ونسي الموقف الذي
يعيشه، ولم يشغل باله سوى هاته اللحظة التاريخية. فأمسك يدها، وضغط عليها برفق،
وأخبرها بأن لا تقلق، فهي معه الآن، وستمر الأمور كلها على خير.
سحبت السيدة يدها من مرفق
"روميو"، وقد ارتبكت، وعلت خديها حمرة زادت من فتنتها، وقالت له بصوت
خفيض: "أرجو أن تقبل اعتذاري عن تصرفي هذا، فهذه أول مرة أستقل فيها
طائرة". أجابها، وهو يمد يده إليها ليصافحها: "لا عليك، فهاته أمور تكون
عادة في هذه المنطقة التي نمر فوقها"، فتبادلا المصافحة، وعرفها باسمه قائلا:
"اسمي هيثم، وأنت؟"، فأجابته: "اسمي نزهة، تشرفت بمعرفتك"، ثم
أخذا يتشاطران أطراف الحديث عن أسباب سفر كل واحد منهما. أعطاها رقم هاتفه النقال،
وعنوان منزله الفخم بباريس، ودعاها لزيارته إن سنحت لها الفرصة، وفي داخله، يبتسم
ابتسامة خبيثة لأنه استطاع أن يكسر قيود امتناع هاته الطريدة، وأحكم حبله حول
عنقها، في انتظار أن يحكمه على قلبها.
بينما هو يسبح في خيالاته وانتصاره، إذ
بالطائرة ترتج بقوة على إثر صاعقة رعدية ضربتها، فانقطعت الأضواء، وعلا صراخ
الركاب، لم تفد كلمات المضيفة التي حاولت ما أمكن أن تصبغ عليها نبرة التفاؤل
والاطمئنان من أن تعيد السكينة إلى الركاب، فدلفت بسرعة إلى قمرة القيادة لتستفسر
عن الأمر.
كانت القمرة بها رُبّان في منتصف عقده
الخامس، ومساعد في الثلاثين من عمره. كانا ينظران إلى مؤشرات الأجهزة التي أمامهما
في قلق، وكان الربان يأمر مساعده بأن يراقب مستوى الضغط داخل الطائرة، وأخذ هو
يضغط على أزرار أمامه ليتأكد من عملهما بطريقة جيدة. بينما هما كذلك، إذ قاطعتهما
المضيفة قائلة: "هل من مشكلة أيها الربان؟" أجابها الربان بشكل حاول ما
أمكن أن يصبغ عليه طابع الهدوء: "نعم، لا عليك، فهاته الصاعقة لم تحدث أي خلل
في الآلات الحيوية للطائرة، وسنصل بها إلى بر الأمان قريبا، بإذن الله. أرجو أن
تخبري جميع الركاب بأن لا داعي للخوف". تنفست المضيفة الصعداء، وخرجت وهي
تحمل ابتسامة على وجهها، وأخبرت الجميع بما قاله لها قائد الطائرة. لم تكمل
المضيفة كلامها حتى عادت الإنارة تسطع داخل الطائرة، فحمد الجميع الله، وتعانق
البعض منهم، فقد اجتازوا فترات عصيبة في هاته الرحلة، ولو أنها لم تكتمل بعد، إلا
أن التوتر كان عاليا، وبدأ يخف الآن.
استعادت نزهة بعضا من هدوءها، ونظرت
إلى هيثم وهي تقول بصوت يكاد يكون همسا: "لم أكن أعلم أن ركوب الطائرة خطير
لهاته الدرجة"، فأجابها مبتسما: "لقد اعتدت على مثل هاته الأمور لكثرة
أسفاري، فلا تشغلي بالك، وخذي قسطا من الراحة، فلم يتبق سوى ثلاث ساعات حتى نصل
إلى وجهتنا".
شكرته بابتسامة ودية، وأسندت رأسها إلى
الخلف تحاول أن تعمل بنصيحته وتنام. لم تمض سوى ربع ساعة، حتى علت فرقعة قوية من
أحد محركات الطائرة، وخرجت منه ألسنة لهب تنبئ بكارثة.
لم يكن يعلم الركاب ما يجري بالخارج،
فمعظمهم استسلموا لسلطان النوم، ما عدا بعضهم كان منشغلا بسماع الموسيقى أو مشاهدة
التلفاز الخاص الموجود في مقاعدهم واضعين أجهزة الاستماع في آذانهم، فلم يسمعوا
الفرقعة التي دوت بالخارج.. من بينهم هيثم. غير أن الوضع كان مختلفا داخل قمرة
القيادة، فقد كان الربان يعمل بسرعة مع مساعده للتحكم في الحريق الذي نشب في
المحرك الأيسر للطائرة، حيث قام بمحاولة لخفض درجة حرارة المحرك آملا أن تتقلص حدة
الاشتعال، وعندما وجد أن لا جدوى من هاته الخطوة، أمر مساعده بأن يوقف المحرك
الأيسر، وأن يدفع مقود القيادة إلى الأمام كي تنزل الطائرة بشكل رأسي حتى يساعد
الهواء الخارجي في إخماد الحريق، ومن تم يعيدون تشغيل المحرك مرة أخرى. أذعن
المساعد للأوامر، فقام بإسكات المحرك، ووجه دفة القيادة نحو الأسفل، فاهتزت
الطائرة بعنف، واستفاق الركاب على وقع أمتعتهم تسقط على رؤوسهم بفعل وضع الطائرة
العمودي، فعلا الصراخ من جديد، وطلبت منهم المضيفة أن يأخذوا أقنعة الأكسجين الموجودة فوقهم من أجل التنفس، وقالت لهم بأن
هذا الوضع الذي عليه الطائرة مؤقت. ثم دخلت بسرعة إلى قمرة القيادة لتُتابع آخر
التطورات.
ربط ربّان الطائرة اتصالا مباشرا مع
القاعدة في مطار شارل دوغول الدولي، وشرح لهم الوضع، فطلبوا منه إعطاءهم إحداثيات
الطائرة حتى يستطيعوا توجيهه إلى أقرب مطار، خصوصا وأن مستوى الوقود بالطائرة بدأ
في الانخفاض. أعطاهم ما طلبوا منه، فوجهوه نحو مطار لا يبعد عن الموقع الذي هو فيه
إلا بنحو ساعة ونصف، وقاموا بالتواصل مع جهاز الشرطة والإطفاء والإسعاف كي يكونوا
على أهبة الاستعداد داخل المطار الذي وُجِّهت إليه الطائرة.
في تلك الأثناء، وداخل الطائرة، كان
هيثم يتنفس بصعوبة، وكانت دقات قلبه تتسارع بشدة، فلم يعتد على هذا الموقف من قبل،
وأيقن بأن النهاية قد حانت، فأخذ يردد آيات قرآنية لم يستطع إخفاءها، وبدأ شريط
حياته يمر أمامه، وتوقف عند معاملته السيئة لزوجته سعيدة التي لم تدخر جهدا
لإسعاده، فكانت نِعمَ الزوجة الصالحة. لم تتوانى يوما عن خدمته، ولم ترفض له طلب..
دائمة الابتسام رغم الكلمات النابية التي كان ينهال بها عليها بسبب أو بدونه..
تذكر ابتسامتها، ودعائها له بالسلامة والهداية في كل صلاة كانت تصليها وهو نائم أو
مستيقظ.. قطع وعدا على نفسه إن نجا من هاته الكارثة سيتوب إلى الله توبة نصوحا،
وسيعامل زوجته بإخلاص وتفان، كما كانت تعامله، وسيقلع عن خيانتها.
لاح لربّان الطائرة المطار الذي وجّهه
إليه المراقبون من قمرة القيادة على الأرض، وحاول أن يستعيد السيطرة على طائرته
التي كانت تنخفض بسرعة.. بدأ يضغط على بعض المفاتيح أمامه، وفوق رأسه، ويراقب
شاشات الضغط والاتجاه ونسبة الوقود بسرعة وتوتر، إلى أن استطاع أن يشغل المحرك
الأيسر مرة أخرى، فاستعادت الطائرة بعضا من توازنها، وتوجهت إلى المطار المؤقت. لم
يتبق سوى بضع كليومترات على الوصول، حتى عاد المحرك الأيسر للتوقف. رغم المحاولات
المتعددة لربان الطائرة ومساعده على إعادة تشغيله، إلا أنه أعلن العصيان وأبى أن يعمل،
فأمسك الربان بجهاز اللاسلكي وربط الاتصال بالمطار الجديد، وهو يقول: "ميدي..
ميدي.. لقد توقف المحرك الأيسر عن العمل، ونحن نهبط بسرعة.. لقد فقدت التحكم
بالطائرة.. ميدي.. ميدي".
سقطت المضيفة على ركبتيها، وهي تجهش
بالبكاء، وتصيح "سنموت.. سنموت.. رحماك يا الله".
بلغ صراخها مسامع الركاب، فأدركوا أنها
النهاية لا محالة، فأخذ الجميع يتلون ما يحفظون من القرآن، ويدعون الله أن يغفر
لهم، وكان منهم من ينطق بالشهادة جهرا، ومن بينهم نزهة رفيقة هيثم في السفر، وهي
تبكي بحرارة.
استمرت الطائرة في الهبوط بسرعة، وبدأت
معالم الأرض تتضح للعيان، وأعمدة متراصة للمطار تتراءى للجميع كشموع في غسق الليل،
إضافة إل أضواء سيارات الإسعاف والمطافئ والشرطة.
حاول ربّان الطائرة بكامل قوته أن يطلق
سراح العجلات كي تصطدم بالأرض وتقلص حدة السقوط، إلا أنها هي الأخرى أعلنت
العصيان، فاصطدمت مقدمة الطائرة بالأرض بقوة، وأخذت تتزحلق بشدة وهي تطلق شرارات
نتيجة سرعة الاحتكاك.. اهتز الجميع داخل الطائرة، وازداد صراخهم.. مال الجناح
الأيمن للطائرة على الأرض، فكان سببا لدورانها
حول نفسها بقوة..
أغمض هيثم عينيه بقوة، واستسلم لمصيره
المحتوم.. بينما هو كذلك، إذ به يسمع صوتا خافتا يأتي من بعيد، لم يتبين كنهه حتى
اقترب. كان صوت زوجته الحنونة سعيدة، التي أخذت تفرك رأسه بحنان وهي تقول له:
"استيقظ يا حبيبي، فموعد طائرتك اقترب".
فتح عينيه غير مصدق أن ما كان يمر به
ما هو إلا كابوس جثا على نفسه وكاد يزهق روحه. حمد الله على لطفه، ونهض بخفة وأمسك
بكلتا يدي زوجته، وقبّلهما بشغف، ثم ضمّها إليه بحنان وهو يقول لها: "لن
أسافر إلى أي مكان، وسأبقى بقربك مهما بقي فِيَ نَفَسٌ أتنفسه".
نظرت إليه نظرة حانية، كعادتها، وقالت
له وهي تضحك ضحكة طفولية: "لا..لا.. لا أريدك أن تبقى بجانبي طول الوقت، اذهب
إلى عملك واجتهد فيه".
"سأذهب، حبيبتي، لكن أعدك أني لن
أتأخر من اليوم فصاعدا، سأكون مخلصا لك وحدك، ولن أرى سواك في هاته الدنيا ما
حييت".
منذ ذلك الوقت، وهيثم لم يخن زوجته،
فاستقام على طريق الجادة، وتاب إلى الله توبة نصوحة، حتى بدأ يُشهد له بالإيمان
والصلاح والتقوى.
تمت
تبارك الله عليك ا سي خالد ... قصة جميلة واسلوب مشوق ولغة سلسة :)
ردحذفدمت مبدعا
الله يبارك فيك أخاي هشام.. مرورك أسعدني كثيرا..
حذفدمت بود..
اسلوب رائع و مشوق
ردحذفأحييك عليه
تحياتي ^^
الأروع هو حضورك أختي سفيرة المحبة..
حذفدمت في ألق دوما..